اتركوا النوارس تعاود التحليق عاليا!
في واحدة من أبلغ قصائد بودلير، يصف طير نورس وهو يحلق عاليا، ثم يصفه وهو يمشي على سطح سفينة تحت أعين من اصطادوه.
محروما من الطيران، يبدو النورس مثيرا للسخرية بعد ان فقد هيبته وجماله وهو يرقص في الأعالي مع الهواء.
يقول بودلير في قصيدته، (بترجمة أنيقة لعبد الهادي الإدريسي.)
أضحى من كان سيد الغيومِ
عبدا أسيرا وأعشى من بوم
يسحب جناحا من كل جانبِ
كمجدافين من حوالي قارب
وها هو المسافر المجنح
قد صار كالسكران يترنح
خلا مما كان من جمال
وأمسى هُزْأةً للرجال
أتذكر ممثلا مغربيا معروفا وقد صادفته مرارا وهو يغادر سيارة أجرة جماعية بيضاء قادما من ضفة إلى أخرى ليلتحق ببيته المتواضع، يفصله نهر أبو رقراق عن مدينة سكنه.
تظهر علامات العوز بجلاء على الرجل بعيدا عن الخشبة وعن اضواء التلفزيون والسينما .
هو واحد من فنانين كثر، اختاروا العيش في مدن مختلفة تحيط بالعاصمة من كل جانب، لأن مداخيل الفن لم تعد تكفي. أو ربما لم تكن تكفي في يوم ما.
حين تهوي النجوم من علياء السماء، ينتهي البريق وتتحول إلى حجارة عادية قد لا ينتبه إليها أحد.
هذه الأيام حبلى بأخبار الوفيات، في صفوف المبدعين وغيرهم.
ليس الموت أبدا ما يقلق الأحياء.
ناموس الكون يدور بهدوء حول الحياة ثم الموت، لا جدال ولا اعتراض.
ما يقلق حقا هو أن يترك من يمنح اللون للحياة بفنه وإبداعه يحترق بنار الفقر والإهمال وكأنه لم يكن.
تصيبني جوقة المتباكين، بعد كل رحيل، بالغثيان.
صور فنان أو فنانة في أواخر حياته، يستجدي العلاج أو يبكي بحرقة أمام ميكروفون موقع إعلامي، بينما يغادر أثاثه وأبناءه وذكرياته منزلا أصبح عاجزا عن أداء كرائه، هي فرصة لذرف الدموع وللاحتجاج أيضا على مصير نجوم المسرح وكل الفنون.
إنهم يعانون في صمت وكبرياء يا سادة.
رحل حسن مضياف بعد أن تمكن منه المرض والفقر معا.
على نفس المنوال، انتهت التشكيلية الركراكية.
لن أذكر المبدعين الأحياء احتراما لكرامتهم.
نورس بودلير لم يكن في الحقيقة سوى مجازا رائعا يصور الشاعر بين نجومية الإبداع ومرارة الواقع.
زهور الألم وغيره من دواوين الشعر وكتب الرواية والمسرح والموسيقى ما زالت تصنع مجد فرنسا الثقافي ومكانتها المتميزة.
يحتاج كثير من مبدعي المغرب إلى التفاتة دعم لمواجهة تداعيات أزمة شلت الحركة الثقافية والفنية.
اتركوا النوارس تعاود التحليق عاليا.