إنها التراجيديا، إنها الحياة… !
تتأرجح الروح تباعا، بين الخوف والرهبة وبين الأمل، بينما يبحث العقل عن معنى للوجود لا زال غامضا ومفقودا.
وأنت تنتظر أن يأتي دورك للرحيل الأخير، عليك أن تلوح مرة أخيرة لمن سبقك، أن تهرول فوق الرصيف بلهفة وراء عربات القطار المتحرك بهيبة تجاه المجهول الكبير.
الراحلون لا وقت لهم ليرسلوا بطاقات جميلة وملونة، فهم ليسوا سياحا أغبياء كي يبيعهم أحدا ورودا وزرابي وبطاقات بثمن غير ثمنها.
يؤدى ثمن الرحلة هنا، ناجزا.
الثمن هو الحياة.
قد تكون حياة سعيدة ودافئة.
وقد تكون مرة ومؤلمة.
حين يهجرك الأحياء قبل الأموات، حين تسقيك الأيام أنخابا وافرة من الغدر والظلم والقهر، فرادى أو مجتمعين.
حينها كن عنترة زمانك وأنشد ما أنشده .
لا تَسقِني ماءَ الحَياةِ بِذِلَّةٍ … بَل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ
ماءُ الحَياةِ بِذِلَّةٍ كَجَهَنَّمٍ… وَجَهَنَّمٌ بِالعِزِّ أَطيَبُ مَنزل
قد تصمت الحواس، بعد أن جف مداد الحب وغابت قافلة الطفولة بين كثبان صحراء العمر، ولم تترك من أثر سوى ضحكات مجلجلة تتردد مثل الصدى في أحلامك فقط.
أما السعداء المحبوبون، فيتذوقون طعم الدنيا مثل حبات كرز صغيرة ولذيذة، واحدة تلو الأخرى، وساعة بعد ساعة.
ثم يتوقف كل شيء دون إنذار.
تنتهي حبات الكرز، في ليلة حزينة وباردة، لا محالة.
إنها التراجيديا، إنها الحياة.
يرى أرسطو أن السعادة والشقاء يكمنان في الفعل، وأن غاية الحياة ليست كيفية الوجود، بل كيفية الفعل.
في تراجيديا سقراط، لا بد من أحداث مؤلمة ونهايات غير متوقعة لكي يتطهر المتفرج على المسرح.
مرة أخرى، الموت يؤلم الأحياء أكثر من الأموات.
ما أروعك يا درويش حين تعاتب أصدقاء تركوا هذه الضفة، في غفلة منك ومن باقي الأحياء.
“ما الذي أفعله من بعدكم؟
ما الذي أفعله بعد الجنازات الأخيرةْ؟
ولماذا أعشق الأرضَ التي تسرقكم مني
وتُخْفيكم عن البحرِ؟”
تستحق هذه السنة الفريدة شكرا عميقا وانحناءة إجلال.
فتحت باب نقاش الموت و الفراق كما لم تفعل كل فلسفات العالم،و احتفت بالموت في كل تفاصيله،تعدادا و عزاء و مرثيات و جنائز لا تنتهي.
في بشاعتها الملهمة،طلبت منا سنة الموت هته ،ان نخفي جميعا ملامح وجوهنا حتى لا نستغل حتى أدنى ابتسامات جميلة يمنحها المقربون و المقربات، لكي نفرح قليلا.
منعت الزيارات و جلسات السمر و كل الأشياء الممتعة.
هي أيضا ستطالها يد النسيان و سترحل بعد أسابيع.
غير أنها ستترك اثرا بليغا لا ينمحي،و ستلقننا لنا درسا ثمينا،مثل معلم قاس و جاد،و ما علينا سوى التأمل و ادرك معاني الأحداث الخفية.
درب الحياة قصير مثل حياة زهرة برية:
حين يداعبها ريح الخريف،و تجهز عليها أشعة الشمس القاتلة،تميل يمينا و يسارا،و لا تتوقف عن نشر عبقها الجميل و اهداء رحيقها لمن أراد،قبل ان تسقط ارضا لتختفي الى الأبد،دون أنين و لا شكوى.
تذكروا،شعاع نور و أمل واحد قد يهزم جيشا من جنود العتمة واليأس و الخذلان.
فلتستمر الحياة إذن،بمن تحبون، و لمن تحبون.