مدارات

أيوب نصر يكتب: صناعة العقل الواحد

قد قضيت زمنا وأنا أقتفي آثار المستشرقين واستقصي أساليبهم، وأحرص جهدي على ربط ماضيهم بحاضرهم، وقد انتهيت من هذه الرحلة الطويلة الشاقة المضنية إلى أمور كثيرة منها أن القوم في كل كتاباتهم الموجهة إلينا لا يكتبون لنا ولا لقومنا، أو على الأقل لسنا على رأس اللائحة لديهم، فأغلب ما يكتبونه عن الإسلام وتاريخ العرب والعربية، وغيرهم من أسس أمتنا ومقدساتها وما تقوم عليه حضارتها و طرق تفكيرها، لا يسلم له عقل عربي مسلم يقوم على تأصيلات صحيحة وفكر يصدر عن منهج سليم، وإنما يكتبون لأبناء أمتهم ولأشياعهم، وذلك أنهم سريعو الخطو في قبول ما يكتبه لهم علمائهم من المستشرقين، ومرد ذلك إلى أن العقل الغربي وضعت له مقدمات عقلية ومسلمات، تجعله يقبل ما ينقل إليه من أخبار وما يكتب له من فكر، ويسلم لكل هذا وذاك  في خضوع وإذلال دون أي قسط من نظر أو حظ من نقد.

وهذه المقدمات العقلية والبديهيات الذهنية، جعلت العقول الغربية عقلا واحدا، ولو أردنا التفصيل في هذا المقام وبسط القول في بيانه، وإقامة الحجج على صواب رأينا فيه، لاستدعى ذلك منا الكثير، ولكن قدمت لك شيئا عنه لأربطه لك بما يحدث الآن.

وقد شغلني موضوع صناعة العقل الواحد منذ زمن، فذهبت في تقصيه عدة مذاهب، ترجع كلها إلى اصل واحد، له علاقة بديننا ولغتنا، غير أنني سأتناوله في هذا المقال من جهة أخرى بعيدا عن الدين واللغة، وإن كان بين الدين واللغة من جهة، وبين ما سأعرض لبيانه الآن من جهة أخرى، عموم وخصوص .

إني لأكاد أجزم أنه لا يمر علينا أسبوع دون أن تجد عبر أرجاء العالم جريمة من أبيض في حق أسود أو العكس، أو غيرهما مما يمكن إدخاله تحت معاني العنصرية، ولكن لا يقوم لها ما يقوم حين يرتكب الجريمة شخص ينتمي للشرطة، فلم يكد يمر يوم على الجريمة التي ارتكبها الشرطي في حق جورج فلويد، حتى خرج الناس إلى الشوارع واضطربت بهم الميادين، وملئت الشوارع، وقد كان يكفيهم من كل هذا، المطالبة بمحاكمة مرتكب الجريمة، ولكن كانت المطالبات أكثر من ذلك وأكبر.

ثم بعدها قامت مظاهرات في فرنسا للاحتجاج على جريمة مماثلة وقعت قبل سنوات.

إن هذا مثال واحد اضربه على مسألة صناعة العقل الواحد، فقد أصبحت أي مخالفة أو جريمة يرتكبها شرطي مدعاة إلى إقامة الثورات والمظاهرات وإسقاط الدول وتفتيت أخرى، ولا تنس يا صاحبي ان ما كان من أحداث الربيع العبري، وما تولد عنه من إحراق الديار، واستباحة الأعراض، وتشريد الأطفال، وسوم الرعب والذل والمهانة، المستمر إلى يوم الناس هذا، إنما كانت شرارته تصرف غير لائق من شرطية.

فها انت ترى أن العقل وضعت له مسلمات جديدة ومشتركة بين جميع العقول،و أعذرني على عدم التفصيل أكثر وتركي الإسهاب والاسترسال في ضرب الأمثال، وذلك أن هذه المقالة مقالة حادثة، دعت الضرورة إلى صياغتها على عجل، دون التبسط في الكلام، وإني أعدك، أنه لو كتب لمقالات “العربية الشريفة والعامية” ان تتم تمامها وتبلغ نهايتها، أن أفصل لك أكثر في هذا الموضوع وأن أعرض لك من الحجج والبراهين ما اقطع به دابر كل مشكك في صحة رايي و ما ذهبت اليه.

ــــــــــــــــــ

كاتب مغربي، باحث في العقائد والمدارس الفكرية، والاستشراق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock