لا إكراه في الرأي

أخنوش يؤكد أن المغرب دولة مؤسسات

جدير وحقيق وحري بي، أن أقدم بين يدي مقالي هذا أمرا، وهو له علاقة أيضا بموضوع هذا المقال، وذلك أنني حين كتبت مقالي “لا تقيسوا المغرب على دول المنطقة” و نشرته صحيفة “رأي اليوم” اللندنية، توصلت ببعض الرسائل، وقد اختلف أصحابها حولي، وتفرق رأيهم حول مقالي، فمنهم من قال أنني إخواني مستتر، وما مقالي ذاك إلا صورة من صور تلميع الإخوان، ومنهم من قال أنني أطبل للدولة المغربية، وما يدور في فلك هذا المعنى من كلام، مع أن مقالي كان واضح الأفكار، بين التوجه، لا تشتبه معانيه على من أوتي ادنى قسط من النظر، ورزق أدنى حظ من الفهم، ولو أنني طلبت من الفريقين، ما يعزز به كل واحد منها قوله من كلامي لانقطع القوم دون تقديم أي دليل، و إنما يقرؤون بفكرة مسبقة، كل حسب البروبغندا التي خضع لها.

وأما مقالي في مجمله، فهو رد على بعض القنوات الشرقية ومحلليها، وذلك أنهم إذا أقدموا على الكلام في أحوال المغرب، جاء كلامهم يحمل الكثير من الاغلاط، وأتت تحليلاتهم ساقطة، وذلك لجهلهم بالواقع السياسي في المغرب وأنظم الحكم والتدبير فيه، فبينت ما علي بيانه من أن المغرب دولة مؤسسات وليس دولة أشخاص أو حزب معين، ورديت على بعض السقطات التي سقطت فيها تلكم القنوات وأولئك المحللون، وضربت المثال بحديث الساعة، وهو العدالة والتنمية، ونتائج الانتخابات المغربية.

و أما الآن فأعود لموضوع المقال الرئيسي، وهو في الأصل تأكيد لما ذهبت إليه في المقال السابق، وزيادة في البيان مضمونه، وقد كنت قلت فيه: “إن المغرب دولة عريقة، لا يقوم ولا يقف، في سياسته، على جماعة أو حزب أو حكومة، وإنما المغرب عرف منذ القدم مفهوم الدولة، فهو يقوم على مؤسسات، منها الحكومة، تكونت واستحكمت وتقوت، عبر قرون طويلة متطاولة قديمة غاية في القدم، كل واحدة منها تعمل في إتجاهها ومسارها وتخصصاتها، وراكمت هذه المؤسسات عبر هذه الأزمنة الطويلة المتطاولة، من التجارب والخبرات ما يساعدها على تسيير الأزمات بنوع من الليونة و السلاسة، فالمغرب لا يقف على حكومة، حتى إذا لم تشكل غرقت البلاد وضاعت العباد، ولا يقوم على تأويلات فردية للدساتير، حتى أن إخوان المغرب يختلفون كثيرا عن الذين هم في بلاد المشرق”

و قبل أيام قال السيد أخنوش، رئيس الحكومة الذي تم تنصيبه، والأمين العام لحزب “التجمع الوطني للأحرار”، وذلك في أول مؤتمر صحفي له، بعد الإعلان عن تشكيل الأغلبية الحكومية: “مرت المفاوضات في جو تسوده المسؤولية والاحترام المتبادل مع جميع الأطراف ووِفق منهجية ديمقراطية تحكمها مقتضيات الدستور وثوابِت الأمة الجامعة والمتمثّلَة في الإسلام، دين الدولة، والوِحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيارِ الديمقراطي” انتهى كلامه.

وفي كلامه هذا تأكيد لما ذهبت إليه في مقالي السابق، من أن المغرب دولة مؤسسات، وليس دولة خاضعة لتوجه حزبي، أو شخصي، فانظر قوله “وثوابت الأمة الجامعة والمتمثلة في الإسلام، دين الدولة” مع أن حزبه، هو حزب ليبيرالي كما يقال، ومع ذلك فان توجه حزبه الفكري والعقدي لا يطبق على مؤسسات الدولة، ولا تخضع له، وهي التي تبقى مؤسسات مسلمة، كما أنها لم تخضع لتوجه التيار الإسلامي في عهد حزب العدالة والتنمية، فالمغرب لا يبدل سياسته مع تبديل رئيس الحكومة.

إن الحزب الذي يقود الحكومة، كيفما كان توجهه وفكره، إنما هو يشرف على مؤسسة من مؤسسات الدولة، كمن يراقب آلة وهي تعمل، فآلة المؤسسة الحكومية، مثلها مثل باقي مؤسسات الدولة المغربية، راكمت تجارب كثيرة عبر قرون قديمة غاية في القدم، فلا يمكن أن تخضع لتوجه حزب معين، أو معتقد جماعة بعينها، وإنما الحزب هو الذي يخضع لتوجه مؤسسات الدولة، فالمتغير هو الذي يخضع للثابت وليس العكس، فالدولة المغربية لها ثواب تخضع لها الأحزاب المغربية، وهذا الذي يعطي المملكة المغربية الشريفة، الاستقرار، ويميزها أكثر عن باقي دول المنطقة العربية، فلا تجد المغرب واقعا تحت ميولات الأحزاب، ولا أهواء الجماعات، وإنما يظهر تفوق حزب على آخر، وحكومة على أخرى، في تقديم الأفكار المتعلقة بحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وفي إعطاء ووضع الخطط ديبلوماسية، و ليس في تغيير معتقدات الدولة، و أنظمها السياسية العامة.

وفي كلام السيد أخنوش، معاني أخرى منها: أن كل حزب في المغرب إنما هو يعمل وفق وتحت سيادة الدولة المغربية، وهذه النقطة نفسها، تشكل فارقا كبيرا بين

حزب العدالة والتنمية المغربي، وبين نظرائه وأشباهه في المشرق، و ذلك أن حزب العدالة والتنمية لم يدخل الإنتخابات حتى وافق على العمل السياسي تحت ووفق ما تقتضيه أنظم السياسة المغربية، وهذا لا يوجد عند إخوان المشرق، ولهذا قلت في مقالي السابق، أنه على كل محلل سياسي، وقبل أن يتكلم في الشأن المغربي، فإن عليه أولا أن يدرس أنظم الحكم في المغرب وكيفية عمل و تدبير مؤسساته، بل وعليه أن يفهم أولا منطق ومنهج التفكير عند أبناء شعبه، لأن الشعب المغربي هو الآخر مؤسسة من مؤسسات الدولة المغربية.

والشعب المغربي حين صوت للعدالة والتنمية، لم يصوت لأجل الإسلام، أو لتوجهها الإسلامي، وإنما صوت لها لأجل وعودها الإصلاحية، ولأجل أن تقوم بمهمتها الخاصة، والمتعلقة بإيجاد الحلول للأزمات الاقتصادية والاجتماعية، كما أنه حين صوت للأحرار، لم يفعل ذلك لأجل توجههم الليبيرالي، وذلك أن الشعب مغربي شعب مسلم مثله مثل باقي مؤسسات الدولة، وإنما صوت للأحرار لأجل برنامجهم الانتخابي، ولما وعدوه به من إعطاء حلول يمكن تنزيلها على أرض الواقع.

إن الاستعمار الفرنسي نفسه، لم يستطع لا أن يغير عقيدة الشعب المغربي، ولا أن يحدث خللا في نظم الدولة ومؤسساتها، ودليل ذلك أنه ما إن تمت تصفية الاستعمار حتى عاد مفهوم الدولة ومؤسساتها ليظهر، ومثل ذلك مثل رجل يعمل، ثم جلس لبرهة حتى استراح، ثم نهض وعاد لإكمال عمله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــت

كاتب مغربي، باحث في العقائد والمدارس الفكرية، والاستشراق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock